في مشهدٍ يختصر مأساة الإنسان أمام جشع نظام الانقلاب العسكري، شهدت جزيرة الوراق فجر الخميس حملة أمنية شرسة نفذتها قوات وزارة الداخلية بحكومة السيسي، استخدمت فيها العنف المفرط والغاز المسيل للدموع والاعتقالات العشوائية ضد الأهالي الذين تمسّكوا بحقهم في منازلهم وأرضهم التي ورثوها أباً عن جد. أصوات النساء والأطفال اختلطت بدخان القنابل وصيحات الغضب، في محاولة يائسة لحماية ما تبقّى من جزيرتهم.
تأتي هذه الحملة في إطار مخطط حكومي واسع لإخلاء الجزيرة قسرًا، تمهيدًا لتحويلها إلى مشروع استثماري ضخم يخدم مصالح رجال أعمال نافذين وشركات أجنبية، تحت شعار "تطوير العاصمة". لكنّ ما يسوَّق له كـ"تطوير" لا يراه الأهالي إلا انتزاعًا لحقّهم في الحياة، وتهجيرًا قسريًا جديدًا يضاف إلى سجلٍّ طويل من سياسات الإفقار والإقصاء.
التهجير بالقوة: قناع الاستثمار يسقط
لم تكن حملة الداخلية الأخيرة ضد أهالي الوراق سوى فصل جديد في مسلسل قديم من محاولات السلطة القمعية انتزاع الجزيرة من أهلها، بالقوة والخداع والابتزاز، بعد أن فشلت لسنوات في كسر إرادتهم عبر الطرق الناعمة والمراوغات الإدارية.
أهالي الوراق يدفعون اليوم ثمن تمسكهم بحقهم المشروع في السكن على أرض توارثوها أبًا عن جد، وتحولت في نظر الحكومة إلى "فرصة استثمارية" مغرية لا بد من اغتصابها بأي وسيلة.
وبحسب صفحة “جزيرة الوراق” على فيسبوك، فقد حاولت قوات الداخلية إزالة عدد من المنازل، غير أن الأهالي تصدوا لتلك المحاولة، في مشهد بطولي يعكس صمودًا شعبيًا نادرًا أمام آلة القمع العسكري.
الموت البطيء عبر الحصار
على مدار الأشهر الماضية، فرضت قوات الشرطة حصارًا ممنهجًا على مداخل الجزيرة، فتم منع دخول مواد البناء، والضغط على الأهالي بكل وسيلة ممكنة لإجبارهم على القبول بتعويضات هزيلة، مقابل التخلي عن منازلهم وأراضيهم، في سابقة لا تحدث إلا في ظل أنظمة لا تعترف بحقوق المواطنين بل تعتبرهم عقبة أمام صفقات الربح السريع.
السلطة تعلم جيدًا أن الغالبية الساحقة من سكان الجزيرة فقراء، وأن الضغط الاقتصادي سيؤتي أكله في النهاية. لكنها تتجاهل أن من تبقى من السكان ليسوا مجرد رقم في معادلة "الاستثمار"، بل هم بشر يتمسكون بجذورهم، ويرفضون أن يُطردوا من أرضهم كأنهم طارئون أو متطفلون.
الاعتقال والترهيب: سياسة ممنهجة لإخماد الصوت
الاعتقالات التي تمت خلال الحملة الأخيرة، والتي سبقها اعتقالات أخرى في نوفمبر الماضي وسبتمبر، ليست حوادث فردية، بل جزء من استراتيجية أمنية قمعية تستهدف كسر عزيمة الأهالي ومنعهم من التعبير عن رفضهم لسياسات التهجير.
لم يكتفِ الأمن بالاعتداء الجسدي، بل تطور الأمر إلى إهانة الكرامة، كما حدث حين اعتدى أحد الضباط بالضرب على ثلاثة من شباب الجزيرة في سبتمبر، وهو ما فجّر موجة غضب شعبية دفعت الأهالي إلى الاحتشاد قرب كمين الشرطة والمطالبة باعتذار الضابط. لكن كرامة المواطن، في ظل دولة الانقلاب، لا تساوي شيئًا أمام كرامة المستثمر الأجنبي أو ضابط الأمن.
الوراق ليست للبيع: ولكن الدولة قررت العكس
في عام 2018، أصدر مجلس الوزراء الانقلابي القرار رقم 20 بإنشاء "مجتمع عمراني جديد" على أراضي جزيرة الوراق. ومنذ تلك اللحظة، أصبح واضحًا أن مصير الجزيرة قد تقرر في الغرف المغلقة، وبعيدًا عن رغبة السكان أو حقوقهم الدستورية.
ثم بدأت الدولة خطوات نزع الملكية بهدوء، وصولًا إلى ما أسمته مشروع "الوراق الجديدة"، الذي يشمل بناء 68 برجًا، وتحويل الجزيرة إلى مدينة استثمارية فاخرة مخصصة للأثرياء.
الحكومة نفسها اعترفت، في تقارير رسمية، بأنها استولت على أكثر من 993 فدانًا من أصل 1295، أي ما يزيد عن 76% من الجزيرة. أما الـ24% المتبقية، فهي اليوم تحت الحصار الأمني والترهيب النفسي، في انتظار الإخلاء القسري أو الاستسلام.
"مدينة حورس": تغيير الاسم لا يُغيّر الجريمة
في يوليو 2022، تم تغيير اسم جزيرة الوراق إلى "مدينة حورس"، في خطوة تهدف إلى طمس هوية المكان وقطع صلته بأهله الأصليين. المشروع، الذي تبلغ تكلفته 17.5 مليار جنيه، من المفترض أن يدر إيرادات تصل إلى 122.5 مليار جنيه خلال 25 سنة.
لكن السؤال الأهم: لمن ستذهب هذه الإيرادات؟
قطعًا لن تذهب لأهالي الجزيرة المطرودين من أرضهم، بل إلى جيوب شركات المقاولات الكبرى التي يحتكرها ضباط متقاعدون أو رجال أعمال مقربون من الدائرة العسكرية الحاكمة، إضافة إلى مستثمرين خليجيين وأجانب حصلوا على امتيازات خرافية مقابل دعمهم السياسي والمالي للنظام.
خاتمة: من يشتري الوطن حين يُباع؟
ما يحدث في الوراق ليس "تطويرًا"، بل نهبٌ علني تمارسه الدولة لصالح نخبة جشعة لا يهمها إلا الربح، ولو على جثث الفقراء. استخدام الأمن في طرد المواطنين من بيوتهم لا يختلف عن الاحتلال، حتى لو ارتدى ثوب "القانون" و"الاستثمار".
الوراق اليوم هي عنوان واضح لسياسات السلطة: لا مكان للفقراء، لا احترام للحق، ولا قيمة للإنسان، ما دام يقف في طريق الرأسمال السلطوي. والجزيرة، وإن سُلبت، ستظل وصمة عار على جبين نظام لا يعرف من الوطن سوى أرضه، ولا يرى في الشعب سوى كائن يجب إخراسه أو إخراجه.

